سورة البقرة - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي.. الوجه الكالح الطالح هو الربا!
الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.. والربا شح، وقذارة ودنس، وأثرة وفردية..
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد. والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده. ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئاً..
ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة.. الوجه الكالح الطالح!
لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود! عرضه عرضاً منفراً، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة. ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى. ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة. وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقاً حياً مباشراً واقعاً. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي. في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها. وتتلقى- حقاً- حرباً من الله تصب عليها النقمة والعذاب.. أفراداً وجماعات، وأمماً وشعوباً، وهي لا تعتبر ولا تفيق!
وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة.. في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم.
أنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي.
والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس؛ ولا يتوافقان في نتيجة.. إن كلاً منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة. وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب!
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود. يقيمه على أساس أن الله- سبحانه- هو خالق هذا الكون. فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان.. هو الذي وهب كل موجود وجوده..
وإن الله- سبحانه- وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء. وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة. استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته. فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ. وما وقع منه مخالفاً لشروط التعاقد فهو باطل موقوف. فإذا انفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض- كما هي في الكون كله- لله وحده. والناس- حاكمهم ومحكومهم- إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم- في جملتهم- أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق.
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل- لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية. ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة- فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه. مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له- فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل. وجعل الزكاة فريضة في المال محددة. والصدقة تطوعاً غير محدد.
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم. ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال. وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة. وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره.
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق:
{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيوداً في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلاً تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها.
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض..
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور ا


هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا. فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية.. أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة، وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا..
وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن- حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر. وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته. وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطاً لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية. وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها. وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما...
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه. بل هو أوضح وأقوى. لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ. ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد.
ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون!
{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}..
هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره. فالكتابة أمر مفروض بالنص، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل. لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص.
{وليكتب بينكم كاتب بالعدل}..
وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب. وليس أحد المتعاقدين. وحكمة استدعاء ثالث- ليس أحد الطرفين في التعاقد- هي الاحتياط والحيدة المطلقة. وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل، فلا يميل مع أحد الطرفين، ولا ينقص أو يزيد في النصوص..
{ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}..
فالتكليف هنا من الله- بالقياس إلى الكاتب- كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه. فتلك فريضة من الله بنص التشريع، حسابه فيها على الله. وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب.. {فليكتب} كما علمه الله.
وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل. ومن تعيين من يتولى الكتابة. ومن تكليفه بأن يكتب. ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل.
وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب..
{وليملل الذي عليه الحق. وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً. فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}..
إن المدين- الذي عليه الحق- هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقدار الدين، وشرطه وأجله.. ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن، فزاد في الدين، أو قرب الأجل، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته. والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن. فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر. ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت، وهو الذي يملي.. وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين- وهو يملي- أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئاً من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى.. فإن كان المدين سفيهاً لا يحسن تدبير أموره. أو ضعيفاً- أي صغيراً أو ضعيف العقل- أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية.. فليملل ولي أمره القيم عليه.. {بالعدل}.. والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة. فربما تهاون الولي- ولو قليلاً- لأن الدين لا يخصه شخصياً. كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد.
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد، نقطة الشهادة:
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم. فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان- ممن ترضون من الشهداء- أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}..
إنه لا بد من شاهدين على العقد- {ممن ترضون من الشهداء}- والرضى يشمل معنيين: الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة. والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد.. ولكن ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً. فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان.. ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}.. والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة.
فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية. فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسياً في المرأة حتماً. تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء.. وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة.. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها- حين تكون امرأة سوية- بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى- إذا انحرفت مع أي انفعال- فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة.
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة:
{ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}..
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعاً. فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق. والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية، بدون تضرر أو تلكؤ. وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما.
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة، فينتقل الشارع إلى غرض آخر. غرض عام للتشريع. يؤكد ضرورة الكتابة- كبر الدين أم صغر- ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلاً عملياً:
{ولا تسأموا أن تكتبوه- صغيراً أو كبيراً- إلى أجله. ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأدنى ألا ترتابوا}.
لا تسأموا.. فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته.. {ذلكم أقسط عند الله}.. أعدل وأفضل. وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره. {وأقوم للشهادة}. فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها. وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد، أو الواحد والواحدة. {وأدنى ألا ترتابوا}: أقرب لعدم الريبة. الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد.
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع، ودقة أهدافه، وصحة إجراءاته. إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة.
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل.
أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة. وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة، ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها:
{إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم}.
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها. أما الإشهاد فموجَب. وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب. ولكن الأرجح هو ذاك.
والآن- وقد انتهى تشريع الدين المسمى، والتجارة الحاضرة، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة- على الوجوب وعلى الرخصة- فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل.. لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة. فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة.
{ولا يضار كاتب ولا شهيد. وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم. واتقوا الله ويعلمكم الله. والله بكل شيء عليم}.
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه. وإذا وقع فإنه يكون خروجاً منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه. وهو احتياط لا بد منه. لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة. فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال. ثم- وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس، لا من مجرد ضغط النص- يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيئ أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان:
{واتقوا الله. ويعلمكم الله. والله بكل شئ عليم}.
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام.. ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتباً. فتيسيراً للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين:
{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة}.
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله. فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها:
{فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}.
والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه.
والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي. وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء.. وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان. ونحن لا نرى هذا، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر. والإئتمان خاص بهذه الحالة. والدائن والمدين كلاهما- في هذه الحالة- مؤتمن.
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى، يتم الحديث عن الشهادة- عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد- لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه:
{ولا تكتموا الشهادة. ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}.
ويتكئ التعبير هنا على القلب. فينسب إليه الإثم. تنسيقاً بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة. فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب. ويعقب عليه بتهديد ملفوف. فليس هناك خاف على الله.
{والله بما تعملون عليم}.
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب!
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب!
{لله ما في السماوات وما في الأرض. وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير}..
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء. فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية.. وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم.. وهي والتشريع في الإسلام متكاملان. فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له. صنعة إلهية متكاملة متناسقة. تربية وتشريع. وتقوى وسلطان.. ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان. فأنى تذهب شرائع الأرض. وقوانين الأرض، ومناهج الأرض، أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها. ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه. الشقوة التي بدأت في الغرب هرباً من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر.. فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها. ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله.. وكانت الشقوة وكان البلاء!!
فأما نحن- نحن الذين نزعم الإسلام- فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح؟!


هذا ختام السورة الكبيرة.. الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعاً ضخماً رحيباً من قواعد التصور الإيماني، وصفة الجماعة المسلمة، ومنهجها، وتكاليفها، وموقفها في الأرض، ودورها في الوجود؛ وموقف أعدائها المناهضين لها، وطبيعتهم، وطبيعة وسائلهم في حربها؛ ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى.. كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض، وفطرته، ومزالق خطاه، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي.. إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة.
هذا ختام السورة الكبيرة.. في آيتين اثنتين.. ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة. يصلح ختاماً لها. ختاماً متناسقاً مع موضوعاتها وجوها وأهدافها.
لقد بدأت السورة بقوله تعالى: {ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعاً.. وها هي ذي تختم بقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله...} وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب!
وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة، وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة.. كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم.. وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله- سبحانه- لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها- كما زعمت يهود عن ربها- ولا يتركها سدى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}..
وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل؛ وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود؛ وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا...}.
وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال؛ وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين.. وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم، والنصر على عدوهم: {أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.
إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل..
وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها، ولها دورها، ولها دلالتها الضخمة.
وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها- وهو كبير- من حقائق العقيدة.. من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه. ومن حال المؤمنين به مع ربهم، وتصورهم لما يريده- سبحانه- بهم، وبالتكاليف التي يفرضها عليهم. ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه.. نعم.. كل كلمة لها دورها الضخم. بصورة عجيبة. عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن، وعرف شيئاً من أسرار التعبير فيه؛ وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته!
فلننظر في هذه النصوص بشيء من التفصيل:
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله. وقالوا: سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا وإليك المصير}..
إنها صورة للمؤمنين، للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلاً. ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة.. ومن ثم كرمها الله- سبحانه- وهو يجمعها- في حقيقة الإيمان الرفيعة- مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته؛ لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة؛ وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده، وهو يجمع بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة واحدة، في آية واحدة، من كلامه الجليل:
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون}..
وإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر. تلقي قلبه النقي للوحي العلي. واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة. الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة؛ وبلا أداة أو واسطة. وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف- على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك! فهذا الإيمان- إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم. على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول صلى الله عليه وسلم بطبيعة الحال وكيان أيٍّ سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه.
فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده؟
{كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله. وقالوا: سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا وإليك المصير}..
إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين. الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة، الضاربة الجذور في أعماق الزمان، السائرة في موكب الدعوة وموكب الرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري، الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين: صف المؤمنين وصف الكافرين.
حزب الله وحزب الشيطان. فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان.
{كل آمن بالله}..
والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور. وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة. وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد. وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك.
الإيمان بالله معناه إفراده- سبحانه- بالألوهية والربوبية والعبادة. ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة.
ليس هناك شركاء- إذن- في الألوهية أو الربوبية. فلا شريك له في الخلق. ولا شريك له في تصريف الأمور. ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد. ولا يرزق الناس معه أحد. ولا يضر أو ينفع غيره أحد. ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيراً كان أو كبيراً إلا ما يأذن به ويرضاه.
وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس. لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة. فلا عبادة إلا لله. ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه. فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد.. من الله.. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حراً إزاء كل من عدا الله، طليقاً من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزاً على كل أحد إلا بسلطان من الله.
{وملائكته}..
والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب، الذي تحدثنا عن قيمته في حياة الإنسان في مطلع السورة- في الجزء الأول من الظلال- وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن إنسانيت بخصائصها المميزة.. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته. فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب- كما منحها الله له- اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب.
والإيمان بالملائكة: إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له.. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية. ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان- وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه- أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها- ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها- وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا حقائق الغيب من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات!
وفضلاً على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة- شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله- يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه- وهو ضئيل- كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير- بإذن الله- وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك.
ثم هنالك المعرفة: المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته..
{وكتبه ورسله}.. {لا نفرِّق بين أحد من رسله}..
والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام. فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم.. ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم. فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم؛ حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين- محمد صلى الله عليه وسلم فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة.
وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله؛ وتقوم على دين الله في الأرض، وهي الوارثة له كله؛ ويشعر المسلمون- من ثم- بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة. فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل. وهم المختارون لحمل راية الله- وراية الله وحدها- في الأرض، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية.. إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان.
إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض، ووارثة له منذ أقدم الرسالات، هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية. إنه رصيد من الهدى والنور، ومن الثقة والطمأنينة، ومن الرضى والسعادة، ومن المعرفة واليقين.. وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام، وتعمره الوساوس والشكوك، ويستبد به الأسى والشقاء. ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب!
وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد، وحرمت هذا الأنس، وحرمت هذا النور، صرخات موجعة في جميع العصور.. هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين.
فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة، فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة.. ومن ثم تمضي في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع. وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش؛ وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش، وتنشر الفساد في الأرض.. ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس!
والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة- ولو غرقت في الرغد المادي- خاوية- ولو تراكم فيها الإنتاج- قلقة- ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي- وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان!
والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، ويعرفون أنهم صائرون إليه، فيطلبون مغفرته من التقصير:
{وقالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير}.
ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. يتجلى في السمع والطاعة، السمع لكل ما جاءهم من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله. فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل، والتلقي منه في كل أمر. فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله، وإنفاذ لنهجه في الحياة. ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شؤون حياتهم؛ أو حيث لا ينفذون شريعته، أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره. فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ومع السمع والطاعة.. الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها؛ وفرائض الله حق أدائها. والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها:
{غفرانك ربنا}..
ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران.. وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله. المصير إليه في الدنيا والآخرة. المصير إليه في كل أمر وكل عمل. فلا ملجأ من الله إلا إليه؛ ولا عاصم من قدره، ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه:
{وإليك المصير}.
وهذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر- كما رأينا- والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط، يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض؛ وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا، ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء.. فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي.. وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه، وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة. فهو يمضي في طريق الطاعة، وتحقيق الخير، والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك- في الأرض- راحة له أم تعباً.
كسباً له أم خسارة. نصراً له أم هزيمة. وجداناً له أو حرماناً. حياة له أو استشهاداً. لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء، واجتيازه للامتحان.. لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل.. فهو إنما يتعامل مع الله؛ وينفذ عهده وشرطه؛ وينتظر الجزاء هناك!
إنها الوحدة الكبرى. طابع العقيدة الإسلامية. ترسمه هذه الآية القصيرة: الإيمان بالله وملائكته. والإيمان بجميع كتبه ورسله، بلا تفريق بين الرسل، والسمع والطاعة، والإنابة إلى الله. واليقين بيوم الحساب.
إنه الإسلام. العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد، وآخر الرسالات. العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدى الخليقة إلى منتهاها. وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعاً. المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود. الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق: حتى يجيء الإسلام، فيعلن وحدة الناموس كاملة، ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق.
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنساناً لا حيواناً ولا حجراً، ولا ملكاً ولا شيطاناً. تعترف به كما هو. بما فيه من ضعف وما فيه من قوة، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق.. وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة.. ثم تحمل الإنسان- بعد ذلك- تبعة اختياره للطريق الذي يختار:
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف. ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله؛ فلا يتبرم بتكاليفه، ولا يضيق بها صدراً، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه. ومن شأن هذا التصور- فضلاً عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس- أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهمّ همة جديدة للوفاء، ما دام داخلاً في مقدروه! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه.
ثم الشطر الثاني من هذا التصور:
{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت.. فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه. فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد.. ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها- حين يستيقنها القلب- أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق. وتقف كل إنسان مدافعاً عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد، فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها- وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعوراً وسلوكاً- فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان- إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان- فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئاً من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر.. ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفرداً وحيداً! ولا خوف من هذه الفردية- في هذا المقام- فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفاً من حق الله في نفسه. فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وفي جهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر.. وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فرداً فيتلقى هنالك جزاءه!
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها.. فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء:
{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}..
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده وعونه؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه.. كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح.
{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه. وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح. وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر، أو التعالي عن الطاعة والتسليم؛ أو الزيغ عن عمد وقصد.. ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته.. إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب.. وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
{ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}..
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم- كما علمهم ربهم في هذا القرآن- بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم. فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم. وفي آية الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيراً عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة. وحرم عليهم السبت أن يبتغوا فيه تجارة أو صيداً.. وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالاً كالتي حملها على الذين من قبلهم وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة: {إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة، هينة لينة، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة، وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم {ونيسرك لليسرى} على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه.. هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر. عبودية العبد للعبد. ممثلة في تشريع العبد للعبد. وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه.. فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده، وتلقي الشريعة منه وحده، وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد!
إن العبودية لله وحده- متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده- هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري. الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة، ومن سلطان السدنة والكهنة، ومن سلطان الأوهام والخرافات، ومن سلطان العرف والعادة، ومن سلطان الهوى والشهوة. ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار.
ودعاء المؤمنين: {ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}: يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق.
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}..
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام. فالمؤمنون لا ينوون نكولاً عن تكليف الله أياً كان. ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون. كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه.. وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم.. إنه طمع الصغير في رحمة الكبير. ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف. وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير.
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور:
{وأعف عنا، واغفر لنا وارحمنا}.
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان، ونيل الرضوان. فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء. ومن رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران.. عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله.. قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن: عمل بكل ما في الوسع. وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز.. ورجاء- بعد ذلك- في الله لا ينقطع. وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح.
وأخيراً يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده. إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين:
{أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين}..
إنه الختام الذي يلخص السورة. ويلخص العقيدة. ويلخص تصور المؤمنين، وحالهم مع ربهم في كل حين..

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7